الوسواس القهري
الوسواس القهري
الكثير منا - إن لم يكن جميعنا - قد سمع عن الوسواس القهري. لكن مفهوم الوسواس ، قد يختلف أحياناً - وربما بصورة كبيرة - بين شخص وآخر. إن الغالبية العظمى من عامة الناس تعرف الوسواس القهري بمعناه العلمي، النفسي، ولكن ربما بصورة مبسطة عن هذا المرض النفسي المعضل، والذي قد يشل حياة الانسان ويسبب إعاقة فعلية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.
هل الوسواس القهري مرض قديم؟
الوسواس القهري مرض قديم جداً وقد ورد ذكره عند قدماء الإطباء الاغريق، ولكن لم يعرف حديثاً إلا عندما وصف طبيب فرنسي اسمه أسكوريل مريضة مصابة بمرض الوسواس القهري ، وكان ذلك في عام 1838 وقد وصف بشكل دقيق اعراض الوسواس القهري رغم أنه لم يطلق على هذا الاضطراب اسم الوسواس القهري.
ما هو الوسواس القهري؟
يعتبر اضطراب الوسواس القهري مرضاً سلوكياً - عصبياً، ويتميز هذا الاضطراب برغبة قوية من الشخص للسيطرة على المحيط الخارجي الذي حوله، وكذلك وجود أفكار مكررة ، لا يرغبها الشخص، وتأتي رغماً عنه ، حتى بعد محاولته إبعادها والتخلص منها، ويعلم الشخص أن هذه الافكار هي أفكاره. ويقوم الشخص المصاب بهذا المرض بعمل افعال قهرية لا يستطيع الامتناع عنها نظراً لأن هذه الافعال تخفف قلقه. هذا القلق يخف لفترة محدودة ثم يعود مرة أخرى مما يستدعي المريض بالوسواس القهري الى تكرار أفعال بصورة مبالغ بها قد تؤدي الى اضاعة وقته وخسارته المعنوية والمادية إضافة الى أن بعض الاعمال القهرية تؤدي الى الضرر البدني بالشخص مثل كثرة الغسيل لأماكن معينة في الجسم ، وربما بمواد مضره كالمطهرات الكيميائية.
الوسواس القهري من مفهوم إسلامي:
تطرق علماء الفقه الاسلامي الى الوسواس القهري ، وكانت مشاركتهم ذات نفع في توسيع مفهوم الوسواس القهري عند المسلمين ، وإن كان للأسف أكثر ما كتب كان من منظور فقهي بحت. ولكن كما أسلفت فإن هذه الاسهامات قد ساعدت عامة المسلمين في تفهم قضية الوسواس القهري، لأن كثيراً من الوساوس عند المسلمين وكذلك الأفعال القهرية غالباً ما تكون ملتصقة بالشعائر الدينية، كالوضؤ والطهارة من الحدث الأكبر أو الشكوك في الصلاة بصورة مستمرة، مما يستدعي معه المريض لتقضية وقت طويل في الوضؤ وإعادة الصلاة. وقد يمر على الطبيب النفسي خلال عمله مرضى بالوسواس القهري يقضون أوقاتاً طويلة في أفعال قهرية، فقد كانت أحدى المريضات تتوضأ لصلاة الظهر ويؤذن العصر وهي بعد لم تنته من الوضؤ لصلاة الظهر ولم تكن صلت الظهر بعد. كما كانت مريضة أخرى تقوم بإعادة غسل الملابس مرات عديدة وهي تعتقد أنها ما زالت متسخة حتى ان الملابس تبلى وتذوب في فترة وجيزة مما اثار زوجها الذي نعتها بالمجنونة!
أعراض الوسواس القهري:
تنحصر أعراض الوسواس القهري في وساوس وأفعال قهرية:
1- الوساوس : وهي عبارة عن افكار أو اندفاعات أوخيالات تأتي للمريض رغماً عنه ، ويعلم الشخص أن هذه افكاره ومن داخل عقله وليست مغروسة من الخارج ويعلم انها غير مقبولة وتسبب قلقاً وتوتراً شديداً بالنسبة له. ويحاول المريض جاهداً أن يهمل أو يكبت هذه الافكار والرغبات والخيالات أو يحاول أن يعادلها بافكار ورغبات أو احياناً أفعال مضادة.
2- الافعال القهرية : وهي عبارة عن أفعال مكررة ( على سبيل المثال : غسيل اليدين ، التنظيم والترتيب ، التأكيد من الأشياء) أو أفعال عقلية مثل ( الدعوات ، العد ، إعادة الكلمات سراً ). ويجد الشخص نفسه مرغماً لفعل هذه الاشياء إستجابة لأفكار وساوسية أو حسب تعليمات صارمة غير قابلة للمرونة تؤدي بصورة نمطية.
انتشار الوسواس القهري:
قبل عدة عقود كان هناك إعتقاد سائد بين الاطباء النفسانيين وبقية العاملين في مجال الصحة النفسية بأن اضطراب الوسواس القهري مرض نادر الحدوث ، وان نسبة الاصابة به لاتتجاوز1% وتشير الدراسات الى أن نسبة الاصابة بين الرجال والنساء متساوية 1 / 1.
يبدأ اضطراب بالوسواس القهري عادة في مرحلة المراهقة وبداية الشباب ، وغالباً ما بين العشرين والخامسة والعشرين. وهناك حوالي 10% يبدأ الاضطراب عندهم قبل سن العاشرة ، وهذا يفسر إصابة الاطفال بالوسواس القهري والتي قد تزول عند البلوغ...
أسباب الوسواس القهري:
ليست هناك أسباب محددة وراء الاصابة باضطراب الوسواس القهري (مثل أكثر الامراض النفسية والعقلية) ولكن كما ذكرنا في الإصابة ببعض الامراض النفسية والعقلية فإن للوراثة دوراً رئيسياً في الاصابة بهذا الاضطراب لمن لهم أقارب يعانون من الوسواس القهري، وكذلك تشير الدراسات الاجنبية في دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الامريكية الى نسب مشابهة. وكذلك فإن نسبة الاصابة بين التوائم المتشابهة تصل الى 87% بينما في التوائم غير المتشابهة تصل نسبة الاصابة الى 47% وهذا يدل على دور الوراثة في الاصابة بهذا الاضطراب.
هناك بعض الاسباب البيئية والتي تعزو لها بعض العاملين في مجال الصحة النفسية حدوث الوسواس القهري ( والتي تتداخل كثيراً مع العامل الوراثي ) ويعتقد المحللون النفسانيون حدوث هذا الاضطراب في أحد مراحل النمو وتكوين الشخصية الفردية تسمى هذه المرحلة " المرحلة الشرجية" وكذلك قسوة رقابة الانا العليا للفرد على نفسه. ولكن كل هذه نظريات لم تثبت صحتها .هناك ايضاً الاسباب العضوية والتي وجد بعض العلماء بأن اضطراب الوسواس القهري ينشأ بعد الاصابة ببعض الاجزاء في المخ خاصة بعد حوداث المرور أو الحوادث التي يتعرض فيها الدماغ الى الاصابة بضربات أو صدمات قوية تؤدي الى تغيير طبيعة المخ الكيمائية.
علاج الوسواس القهري:
عادة يبدأ المريض في طلب العلاج بعد أن يكون المرض قد بدأ لأكثر من عشر سنوات، وحسب الدراسات فإن الفترة الزمنية بين بدء المرض وبدء العلاج هي اثنا عشر عاماً . لذا فإن المرضى غالباً يبدأون العلاج وهم في سن الثلاثينات (معدل العمر عند طلب العلاج هو 34 عاماً).
ينقسم علاج الوسواس القهري الى قسمين ، علاج دوائي وعلاج نفسي . مع العلم بأن التزواج بين العقاقير الطبية، الأدوية المضادة للوسواس القهري وطرق العلاج النفسية الخاصة بعلاج الوسواس القهري هما أنجح لعلاج اضطراب الوسواس القهري خاصة اذا استطاع المعالج أن يختار الدواء المناسب وبالجرعة المناسبة ،لأن هناك فروقات فردية بين الناس في تقبل العلاج الدوائي وكذلك الجرعة المناسبة لكل فرد على حده.
العلاج الدوائي:
العلاج الدوائي مهم في علاج مرض الوسواس القهري، وقد كان في السابق يعتقد بأن الادوية لا تساعد في علاج اضطراب الوسواس القهري ولكن في الستينات من القرن الماضي ثبت فعالية دواء الكلوميبرامين (اسمه التجاري في المملكة العربية السعودية هو الانفافرانيل ) وهو من الأدوية ثلاثية الحلقات المضادة للاكتئاب .وبعد ذلك تم اكتشاف بعض الأدوية المضادة للاكتئاب ولها مفعول جيد على الوسواس القهري، خاصة بعد ظهور الادوية المعروفة بمثبطات إعادة مادة السيروكسات وهي من أهم الادوية الحديثة في علاج الوسواس القهري وقد يحتاج المريض الى جرعات أعلى في علاج الوسواس القهري عنه في علاج الاكتئاب.
العلاج النفسي:
يعتبر العلاج النفسي ذا فائدة كبيرة في التغلب واستمرارية التحسن حتى بعد توقف العلاج ويعتبر العلاج السلوكي المعرفي أهم أنواع العلاج النفسي الخاصة بالوسواس القهري، خاصة ما يعرف بالتعرض ومنع الاستجابة ( وهو الطلب من المريض تعريض نفسه للاشياء التي تثيره لفعل الافعال القهرية ثم الطلب منه عدم عمل هذه الافعال القهرية وبتكرار هذه العملية يخفف القلق تدريجياً ). وهذا العلاج ثبت فعاليته بصورة جيدة في علاج الوسواس القهري خاصة وأن المريض يستطيع أن يكون معالجاً لنفسه ( أي العلاج الذاتي ) بعد أن يتعلم أسس العلاج وطريقة التعرض لمثيرات الوسواس القهري. الخاصية الجيدة في العلاج النفسي انه يستمر حتى بعد أن يتوقف المريض عن جلسات العلاج. ولكن يجب أن يكون الذي يمارس هذا العلاج ذا علم وخبرة في علاج هذا الاضطراب حتى لا يكون هذا العلاج مجرد إضاعة للوقت والمال.
مآل الوسواس القهري:
مع العلاجات الدوائية والنفسية فإن نسبة التحسن بين مرضى الوسواس القهري أصبحت جيدة. الآن مع هذه العلاجات اصبح يتحسن بشكل جيد ما نسبته 70% الى 80% من المرضى خاصة مع تزواج العلاج السلوكي والعلاج بالأدوية المثبطة للسيروتونين. يجب على المرضى أن يكونوا صبورين وكذلك على العائلة والاصدقاء ان يقفوا بجانب المرضى بهذا الاضطراب لأن العلاج والشفاء منه أمر في متناول المريض اذا أحسن استخدام وسائل العلاج المتاحة.ً
إصدارات جديدة: الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي
الكتاب: الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي
المؤلف: د. وائل أبو هندي
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – الكويت
احدث كتاب من سلسلة علم المعرفة الكويتية هو كتاب الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي من تأليف: د. وائل أبو هندي.
(... عن اضطراب الوسواس القهري الذي تشير أقل التقديرات إلى أنه يصيب ما لا يقل عن ستة ملايين إنسان
عربي، حيث أنه يصيب واحداً من كل خمسين من البشر على مستوى العالم أيضاً.).
في (مقدمة المؤلف) نقرأ:
(سأحاول في هذا الكتاب أن أتتبع تطور الأفكار عن الوسواس القهري تتبعاً تحليلياً، قدر استطاعتي، كما سأحاول أن أضع القديم الذي يخصنا مع الجديد الذي نحن أجدر به، على الرغم من تعثرنا المعاصر في ركب العلم الدنيوي الحديث. وكان من الممكن أن أضع القديم وحده في باب خاص، لكني رأيت أن علينا في هذه السنوات بالتحديد من عمر منطقتنا العربية أن نرى كل الأشياء في الوقت نفسه.
نعم إنه قدر المثقفين الحقيقيين في زماننا هذا، وفي مكاننا هذا، أن يفتحوا عيونهم ناظرين في كل أتجاه ومن كل اتجاه، لأنهم ببساطة يعيشون زمن التسارع ناحية التيه العلمي المادي، وقصدت (التيه) بمعنييه: التيه بمعنى الغرور، أي أن تتيه بنفسك، والتيه بمعنى التيهان أي أن تضل الطريق... ولذلك فالمثقفون العرب ساعون... يريدون أن يكون لهم وجودٌ على ساحة عالمية هم جديرون بها، لكي يستطيعوا احترام أنفسهم وأكل عيشهم أيضاً لكنهم في الوقت نفسه يريدون أن يؤدوا واجبهم نحو أهلهم بشكل يليق بهم كعرب أيضاً، لهم ما لهم من عمق وجذور في التعامل مع الوجود الذي أوجدهم الله فيه).
في الفصل الأول (ما هو الوسواس القهري؟ تعريفات ومعان وحالات) نقرأ:
(يفترض في كل إنسان أنه يشعر بقدرته على التحكم في أفكاره فهو.. يستطيع أن يفكر في ما يشاء من أفكار، ويستطيع أن يطرد ما يشاء من الأفكار من وعيه متى شاء... وينطبق الكلام نفسه على الصور العقلية أي التخيلات فعندما تمثل صورة معينة في ذهن الإنسان سواء استحضرها هو أو تداعت إلى وعيه لسبب أو لآخر فإنه يستطيع استبقاءها إن كانت متوافقة مع إرادته كصورة شخص عزيز أو حبيب ويستطيع كذلك إبعادها عن ذهنه إن لم تكن تروق له، والكلام نفسه ينطبق على ما يمكن تسميته بالاندفاعات أي الشعور المفاجئ برغبة في فعل شيء ما كأن يشعر الإنسان بالرغبة في القفز مثلاً أو في الصراخ، فإن الطبيعي هو أن يستطيع الإنسان التخلص من هذه الرغبة متى أراد..
أما في حالة الفكرة الاقتحامية أو الوسواسية فإن الأمر يختلف حيث يحس الشخص بأن الفكرة إنما تحشر نفسها في وعيه رغماً عنه، ويوقن بالطبع أن مصدرها هو عقله، لكنه يحس أنها غريبة عليه، لأنها عادة ما تكون مخالفة بشدة لتوجهات هذا الشخص ومبادئه ومشاعره، أو إنها على الأقل فكرة لا معنى لها، أو لا وجاهة فيها، ويكن رد فعله شيئاً من القلق والضيق وربما القرف فيحاول أن يتخلص منها، لكنه للأسف يعجز عن ذلك، وكلما قاومها زادت حدة إلحاحها على وعيه، التي غالباً ما تأخذ شكلاً... مقززاً بشكل أو بآخر بحيث تنتفض لها نفس المريض ويقشعر بدنه من فرط ما تزعجه وتؤلم ضميره لكنه لا يستطيع الخلاص منها، وكذلك في حالة الاندفاعات فغالباً ما تأخذ شكل الرغبة في فعل شيء خارج عن المألوف في موقف مهيب، كأن يخرج الواحد لسانه في المسجد أو الكنيسة أو يتفوه بألفاظ خارجة أو ربما أخذت شكل اندفاعات جنسية تجاه المحارم أو شكلاً عدوانياً تجاه الناس في الشارع أو في القطار مثلاً...)